طريقي إلي الله بدأ بجريمة قتل «مؤمن»!ا/عادل حمودة
تستغرق الرحلة من القاهرة إلي مكة ساعات قليلة. لكنني.. قطعتها في سنوات طويلة.. مشيا وراء الشك واليقين.. مشيا علي الشوك والحرير.. فالطريق إلي الله أبعد وأطول وأشق مما نتصور.. وقد نظل سائرين فيه حتي نهاية العمر.. فلا نصل.. ولا نهنأ.. ولا نستريح.. إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
كأننا مثل سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة بحمل صخرة فوق كتفيه ليصعد بها الجبل.. فإذا ما وصل إلي القمة تدحرجت وسقطت إلي القاع.. فيحاول من جديد ويكرر المحاولة بلا نهاية.. ودون أن ينجح.
أو كأننا مثل تنتانوس الذي حكمت عليه نفس الآلهة بوضعه في بحيرة من الماء العذب تحت وهج شمس حارقة.. وكلما شعر بالعطش ارتفع الماء إلي شفتيه.. فإذا ما حاول أن يشرب.. انحسر الماء.. وتتكرر المحاولة دون أن يرتوي.
إن هذه الأساطير القديمة عن الآلهة القاسية أفزعتني من الله فلم أحاول الاقتراب منه.. تجنبته.. هو في حاله وأنا في حالي.. وضاعف من البعاد العصا الغليظة التي يحملها مدرس اللغة العربية وهو يراجع معنا ما حفظناه من الآيات المقررة علينا.. فنحن لم نر في الضرب المبرح علي أيدينا واكتافنا وظهورنا رحمة الله ومغفرته وحنانه وجناته.. بل رأينا عذابه وقسوته وجحيمه وانتقامه.
أما الآيات التي كنا نحفظها فكانت عن يوم القيامة.. يوم نحشر جميعا.. فلا أحد يعرف أحدا.. ولا أحد يحمل كارت توصية من أحد.. فماذا يفعل طفل صغير مثلي في هذا اليوم العصيب دون أم وأب يساندانه؟.. يوم تنطبق السماء علي الأرض.. وتتفجر الحمم والبراكين.. وتفيض الأنهار.. وتهتز الزلازل.. فمن لم يحترق بالنار مات غرقا.. ومن لم يمت تحت الانقاض أحرقوه في نار جهنم.. حيث تتبدل الجلود كلما احترقت.. حيث تشهد علينا ألسنتنا وأيدينا وأرجلنا في فضيحة علنية نتمني الستر فيها.
كنت كلما تخيلت هذه المشاهد المرعبة أرتعد.. فلا أملك سوي أن أغطي وجهي وأنا نائم حتي أتجنبها.. لكنها.. كانت ترفع الغطاء وتأتي في المنام.
وكان زميلي وصديقي النحيف المريض بروماتيزم في القلب أول ضحايا يوم القيامة.. فقد عجز عن حفظ الآيات المقررة.. وتلعثم في النطق.. فوجد العصا تهبط علي كل مكان في جسده.. ولم يخرج صوته الضعيف من فمه.. وإنما تفجر الزبد علي شفتيه.. لم يقدر علي الاعتراض.. فقد كانت أنفاسه الأخيرة تخرج من صدره ولا تعود.. والمثير للدهشة أن اسمه مؤمن.. وأبوه كان شيخا أزهريا.. وأمه كانت أول محجبة رأيتها في حياتي.. وكنت أحبها بلا حدود.. فهي طيبة.. حانية.. يشع النور من وجهها.. أما حكاياتها الجذابة فكانت تبدأ بالحلوي وتنتهي بالحلوي.. هل هناك أكثر من ذلك تقوي؟.
وفزعت من حصة الدين وحسدت زملائي الأقباط الذين يخرجون منها ليلعبوا في الحوش.. أو ليقرأوا مجلة سمير التي كنت أجن بها.. وما ضاعف من كراهيتي للمدرس القاتل أنه كان يستغفلنا ويتركنا نردد ما نحفظ من القرآن بصوت مرتفع ليتسلل إلي حجرة الأشغال اليدوية المجاورة ليغازل المسئولة عنها.. أبلة نبيلة.. وكانت امرأة مثيرة.. نسعد بحصتها.. ترتدي بالطو من القماش الخفيف علي اللحم.. وكنا ننزل تحت مقاعدنا لنتأمل سيقانها شبه العارية.. نحن في الجحيم.. وهو في النعيم.. منتهي الظلم. ومنذ ذلك الوقت البعيد وأنا لا أعطي ثقتي المطلقة لكل من يتحدث كثيرا في الدين.. فالكلمات المقدسة التي يفرطون في استعمالها قد تكون ستارا لفساد وظلم وانحراف ونفاق وأخطاء وخطايا يرتكبونها ويتهربون من عقابها.. فلا هم وحدهم أهل الله.. ولا هم ظله علي الأرض.. ولا تكفي ملابسهم الرسمية كي نسمعهم.. ونصدقهم.. ونثق فيهم.. ولو اختفوا من الدنيا لن تختفي الأديان.. فالإيمان في قلوبنا قبل ألسنتنا.. وسبحانه وتعالي يقول: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
وهناك قصة أخري في صلب الموضوع لكنها خفيفة الظل.. فذات يوم وأنا عائد من المدرسة سرت شائعة عن يوم القيامة.. تحدد تاريخه بدقة خلال ساعات.. فكان أول ما فكرت فيه ثروتي من النقود التي أحتفظ بها في حصالة من الصفيح الملون.. وهرعت إلي البيت وأمسكت بسكين ووسعت من فتحة الحصالة كي تنزل منها الملاليم والقروش والقطع المعدنية الأكبر.. كانت ثروة بكل مقاييس الطفولة.. ثلاثة وعشرون قرشا وسبعة مليمات.. وأصابتني الحيرة.. كيف أنفقها قبل أن تقوم القيامة وتضيع وسط الزلازل والحمم والفيضانات والبراكين وسقوط الجبال علي رءوس العباد؟.
حاولت التسلل ليلا كي أخرج إلي الشارع بحثا عن مكان نقوي فيه.. لكن.. كان أبي جالسا في الصالة يقرأ صحيفة أخبار اليوم وأمي بجانبه تقلب صفحات مجلة حواء.. وعدت إلي حجرتي أبحث عن حل.. ولم أجد سوي أن أضع النقود في حزام من القماش ألفه حول وسطي بإتقان.. كي أحملها معي إلي العالم الآخر.. فربما وجدت في الجنة سوقا أنفقها فيها.. ولم أنم طوال الليل.. ورحت أنتظر سقوط السقف فوق رأسي.. وأنا أردد ما حفظت من القرآن.. فالله موجود في قلوبنا حتي لو ادعينا غير ذلك.. في لحظات الخطر نلجأ إليه.. ونستعين به.. ونلتصق به.. بما في ذلك اللص الذي يدعوه وهو يقتحم شقة كي لا يقبض عليه وهو يسرق.. والعاهرة التي تريد أن تنتهي من الزبون الذي معها حتي تلحق بمدفع الإفطار.. فهي صائمة.. تعتقد أن ما تفعل " وعد ومكتوب ".. لكن.. الله غفور رحيم.
وفي تلك المرحلة المبكرة من عمري كثيرا ما تساءلت من هو الله؟.. ما هي صورته؟.. أين يقيم؟.. وكيف أصل إليه؟.. وهل يمكن مقابلته؟.. ولم أقدر علي طرح هذه الأسئلة التي لا يوجد طفل واحد وجد علي سطح الأرض لم يسألها بينه وبين نفسه.. أو لم تتردد في خاطره.. فما إن فتحت فمي وتكلمت في الموضوع حتي وجدت من يسكتني بشدة.. وينهرني بقوة.. " أسكت حتي لا تكفر ".. ولم أفهم معني الكفر.. لكنني فهمت بالغريزة أنها كلمة محرمة تقضي علي حلم الصغار الدائم بدخول الجنة.. حيث اللعب مبتكر.. والحلوي بلا ثمن.. والفاكهة لا نهاية لها.. حيث لا مدرسة.. ولا مذاكرة.. ولا مواعيد للعودة إلي البيت.. ولا امتحان يكرم فيه التلميذ أو يهان. وعندما كبرت وقرأت وسافرت اكتشفت أنني مثل الفلاسفة الذين بحثوا عن الله بعقولهم.. والصوفيين الذين توصلوا إليه بقلوبهم.. والأنبياء الذين أطاعوه بضمائرهم.. والأولياء الذين عرفوه بعشقهم لذاته.. وتمنيت أن أكون مثل سيدنا موسي ألقاه في جبل سيناء.. أو مثل سيدنا إبراهيم أناقشه في الإيمان وأتابع تجربة الموت والحياة التي أجراها علي زوجين من الطير.. أو مثل سيدنا يوسف أري برهانه في لحظة الشهوة التي لا يقدر علي تجاوزها أكثر الرجال صلابة.. أو مثل سيدنا محمد أطير من مكة إلي القدس في لمح البصر.. وأعرج إلي السماء وألتقي بكل الرسل مرة واحدة. وعاتبت وأنا صغير أبانا آدم.. فقد حرمنا من الجنة.. ودفع بنا إلي الشقاء في الدنيا.. وأجبرنا علي الدراسة.. والبحث عن وظيفة وشقة وزوجة.. وتحمل النظم السياسية القاسية.. لكنني خففت من ذلك اللوم فيما بعد فلو بقينا في الجنة لبقينا مثل العذاري.. لما تمتعنا بالمرأة.. لبقينا منفصلين عنها.. لا نندمج معها.. ولا نشم رائحتها.
لو بقينا في الجنة لبقينا بلا تعب.. بلا ظلم.. بلا صراع.. لكن.. لولا التعب ما عرفنا قيمة الراحة.. ولولا الصراع ما تذوقنا طعم الانتصار.. ولولا الظلم ما سعينا إلي العدل.. ولولا القبح ما انبهرنا بالجمال.. ولولا الكفر ما نعمنا بالإيمان.. ولولا الشيطان ما بحثنا عن الله طول حياتنا. في جنوب السودان رحت أنا وصلاح حافظ وهبة عنايت نقطف زهورا برية وننسقها معا قبل أن نذهب ونقدمها إلي الزوجة الأخيرة لمحافظ مدينة جوبا.. وفوجئنا بأن العروس حامل في شهرها الثامن علي الأقل.. وربما علي وشك الوضع.. ولا أحد من أهلها يتربص بها.. أو يسعي لقتلها.. بل علي العكس كانوا يرقصون فرحا بها.. وأهلها أكبر قبيلة هناك.. الدنكا.. وهم وثنيون.. ربهم تمثال من الخشب المحفور علي شكلهم.. قامة فارهة.. شفاه غليظة.. شعر مجعد.. خدان من الأبنوس.. لكن.. الذي يعقد القران رجل دين يرتدي ملابس الرهبان الكاثوليك.. أما خطبة الزواج فنصفها من القرآن.. " إن الله خلق المرأة لنسكن إليها.. فهي بيت الرجل.. وليست متعته فقط ".. لقد وجدت في ذلك العرس الأفريقي كل الديانات السماوية والمعتقدات البشرية بلا تحفظ.. ولا يمكن أن نلوم أصحابها.. فهم يعبرون عن تصورهم لله بطريقتهم.. وهم لن يحاسبوا.. فلا حرج علي من لم تصله الرسالة.
وفي الهند رحت أنا وحسن عامر نتأمل البقرة البيضاء المقدسة التي يتركونها في عرض الشوارع تعطل المرور وتضاعف من الزحام دون أن يعترضوا.. أو يغضبوا.. علي العكس.. يشعرون بالتفاؤل كلما صادفهم عدد كبير منها.. وفي الأعياد ينزلون معها الأنهار.. ويتركون المياه لها.. ويحتفظون بالطين لأنفسهم.. يغطون به وجوههم وأجسادهم.. ورغم ذلك فهي ليست المخلوق الوحيد الذي تتجسد فيه آلهتم التي لا تعد ولا تحصي.